image

ما معنى أن تكون مغربيا؟ هذا هو السؤال الذي يؤطِّر الحديث عن “الهوية” المغربية، باعتبارها عنصرا يُشكّل المغربي والمغربية، ويجدُ تجلّياته في التاريخ والجغرافيا، في اللغة والدين والتقاليد والعادات والثقافة على تنوعها وتعدّدها، وفي مختلف الامتدادات التي تُقرن انتماء المواطن بما يُعرف بالعامية المغربية بـ"تامغرابيت"، فيتُميّزه عن المواطن المصري أو المواطن الموريتاني، كما تُميّزهُ عن المواطن الأوروبي.

وقد شكّل موقع المغرب الجغرافي المطل على ساحل البحر المتوسط والمحيط الأطلسي عاملا مساهما في إغناء مختلف العناصر المُشكِّلة لهوية مواطنيه، ومجالا مكانيا مناسبا لتوافد حضارات متعددة أنعشت المغرب سياسيا ودينيا وثقافيا وتجاريا، وقِبلة للمهاجرين القادمين من بلاد المشرق ومن إفريقيا جنوب الصحراء، ممّا ساهم في إثراء التركيبة الاجتماعية والدينية للمغرب، وإغناء إرثه الثقافي والحضاري.

وقد عرف مصطلح “الهوية المغربية” تطورا دستوريا ملحوظا، إذ جاء في تصدير كل الدساتير الخمسة الأولى التي عرفها المغربأن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير. وبصفتها دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية”. فيتضحُ لنا حصر المُشرّع الدستوري عناصر الهوية في الدين الإسلامي واللغة العربية والجغرافيا الإفريقية فقط.

على عكس ذلك، ولأول مرة يؤكد دستور 2011 على مفهوم الهوية في تعريف الهوية الوطنية، فجاء في تصدير الدستور أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية -الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”. وقد خصّ المشرّع الدستوري فصولا للتفصيل في بعض مكونات الهوية المغربية.

إن التحديد الجديد لعناصر الهوية المغربية من خلال دستور 2011 يُبرزُ عمق التنوع والتعدد اللغوي واللساني والثقافي الذي تزخر به مناطق المغرب على امتداد جغرافيتها وتنوع تاريخها، لذلك برز عنصر الأمازيغية ومكوّن الصحراوية الحسانية، كما برزت الروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية، وهي روافد تعكس الانتماء الجغرافي والعمق التاريخي للمغرب، بالرغم مما تثيره من أسئلة وحساسيات ذات بعد ديني وثقافي وسياسي، وهذا ما يجد تفسيره في مصطلح “انصهار” الوارد في تصدير الدستور.

فالواضحُ أن الركائز التي استند عليها المُشرع الدستوري لتعريف الهوية الوطنية المغربية هي عنصري اللغة والدين، فخصّ لذلك الفصل الثالث من الدستور للتأكيد على أن  "الاسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"، وخص الفصل الخامس للتأكيد على أنه “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها"، وجاء فيه كذلك على أنه "تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء. يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية”.

وبالرغم من زخم هذا الرصيد الهوياتي المتنوع، الذي تنخرطُ في حمايته وتطويره مختلف المؤسسات والهيئات الثقافية والتعليمية المكلفة بذلك، فإنه -ومن وقت لآخر-  تبرزُ إشكالية “أزمة الهوية” أمام الحاجة إلى “الانفتاح”. 

فالدينامية التي يشهدها العالم على مستوى التطور والتقدم هي دينامية تؤثر في ما يُشكّل أي شخص، أي على مستوى هويته. فالثورة التكنلوجية خلقت فضاء جديدا للتواصل الافتراضي مما قلّص فرص التواجد في الفضاء الواقعي، الشيء الذي أثّر على العلاقات الاجتماعية. وإذا استحضرنا أن المغاربة شعب اللقاءات العائلية والتجمعات القَبَلية، فإنهم يواجهون إشكالية “الفردانية” في ظل “عالمية” العولمة وانخراط الأجيال الجديدة في هذا العالم الرقمي الجديد، لذلك يثير الفاعلون في مجال التربية إشكالية “أزمة” الهوية وإشكالية “الاستلاب” الهوياتي، نتيجة الانفتاح على العالم وعلى الآخر.

إن مفهوم الهوية من أعقد المفاهيم الفلسفية التي أثارت تفكير العديد من الفلاسفة والمفكرين، ومنهم من عاش تجربة الهجرة والاغتراب، فكان سؤال الهوية سؤالا على المحك. وفي هذا الصدد يتحدّث الفيلسوف الفرنكولبناني أمين معلوف عن الهويات وليس الهوية، ويتحدث في كتابه كما عنونه ب"الهويات القاتلة" عن إشكالية الحرية والهوية، أي حرية الشخص في اختيار وانتقاء عناصر الهوية التي يريد أن تُشكّله من لغة وديانة وثقافة وسلوك اجتماعي. أما إذا كانت الهوية تعني الهوية الجمعية التي تلغي الفرد وتفرض العناصر الجماعية، فهذا ما يُنتج بالنسبة لأمين معلوف العنف والتيارات الفكرية المتطرفة.
وعلى ضوء هذه الفكرة، نتساءل إلى أي حدّ لا يؤثر الانفتاح على الهوية المغربية بشكل يُضعف ملامح الشخصية المغربية، إذا اعتبرنا أن الدفاع عن الهوية المغربية هو دفاع عن الوجود والوحدة والسيادة. فعادة ما يُواجه الداعون إلى الانفتاح بنشر الفكر الغربي غير المُنسجم مع الهوية المغربية، والذي لا تربطه صلة بمحيط المغرب جغرافيا ودينيا وثقافيا، مما تبرز فكرة تهديد الهوية العربية الإسلامية كلما تمحور النقاش مثلا على تعلم اللغات الأجنبية واستبدال التكوين باللغة الإنجليزية عوض اللغة العربية، أو حين يفتح النقاش حول حوار الأديان وحرية المعتقد.

وعلى مستوى آخر، فإنه بالرغم من هذه الإشكالات التي يثيرها تحدي الانفتاح، فإن الشعور السائد هو الافتخار بالهوية المغربية، ذلك أنه في دراسة خاصة بمؤشر الثقة 2021، أعدّها المعهد المغربي لتحليل السياسات، فإن 65 في المائة من العينة المستجوبة “فخورة جدا” بالهوية المغربية، وفقط 3 في المائة ضمن العينة “غير الفخورة على الإطلاق”.

ختاما، إن الحديث عن الهوية المغربية يثير مسألة الثابت والمتغير أمام المستقبل المفتوح والمتجدد، أمام المستقبل الكوني الذي تتوحّد فيه القيم والثقافات والاهتمامات البشرية في سياق عولمة الثقافات والسياسات، لذلك تبقى الحداثة أمرا واقعا تبرزهُ التحولات المجتمعية، لكنها تثير في الوقت نفسه مخاطر العنف والتطرف والتعصب والهويات “القاتلة” بتعبير أمين معلوف، كما تُثير الحاجة إلى الحوار.

وعلى ضوء ذلك، نُقسّم محاور نقاش حلقة كافي بوليتيكو المحلي إلى أربع محاول:

1 مفهوم الهوية بين الثابت والمتحول

2مكوّنات الهوية المغربية في دستور 2011 

3 دور المؤسسات التعليمية والإعلامية والتشريعية في دعم وتطوير الهوية المغربية

4 علاقة “أزمة” الهوية برهان الانفتاح والانتقال الحداثي 

-أسية العمراني